Saturday, January 6, 2007

لأزقة الظلام في بيروت

لم يكن مساء الخميس ليختلف عن باقي أيام المدينة... أضواء السيارات أنارت ظلمة أزقة الطرقات، في حين أن صدى الموسيقى ترددت أرجاؤه في جدران المباني العتيقة...

ككل خميس، خرجت لأمشط أرصفة بيروت القديمة، لأستعيد ذكريات تركتها ممزقة في كل مكان...
لم أعتبر، بعد سنة على استشهاد الرفيق سمير قصير، أن المدينة التي أحبها ، ستنام على لون أحمر من جديد...

غالي ثمن بناء الأوطان، غاليا ً جدا ً.

زحمة سير لم أعرفها من قبل، وهدوء يسبق وقوع الكارثة...

لم أتفاجأ حين سمعت صوت شبان ٍ يتعالى، بل فرحت!! هنالك من يتذكر سمير قصير ويناشد الله!!
ترجلت وانتظرت وصول الموكب، لأنضم الى محبيه...

ما هي الا لحظات، ووصل موكب التشييع.

غريب كيف أن الحقيقة تسقط القناع عن وجوه المجانين، وكيف أن الانسان يتحرك بين كثبان الرمال، كالتائه في الصحراء.

تحولت البسمة من على وجهي الى علامات تعجب...
فأول الموكب علم ٌ كبير لايران... وآخر الموكب علم ٌ لسوريا... وبين هذا وذلك، سيل من الأعلام الصفراء التي غطت سماء الشارع.
ذهلت... وكان الواقع صعب القبول... عادت الى ذاكرتي شوارع بيروت المحترقة يوم مات عبد الناصر... فارتهن السؤال: " هل مات عبد الناصر الليلة من جديد؟"

لم استفق من صدمتي الا بوصول مئات الشباب، من كل صوب وحدة، عاريي الصدور، ويزينون أيديهم بكل ما قد حملته يد من قبل...

ارتفعت الهتافات وسيل الوعيد... لم أستطع أن أسمع ما يقال، أو حري بي القول، رفضت لوهلة تصديق ما يحصل...

كتمثالٍ تعبٍ بقيت مسمرا ً ... رافضا ً الحراك أو التفكير... كشريط ٍ سريع ٍ مرت... تلك الذكريات السوداء من الحرب الأولى... بالأسود والأبيض، رأيت أبو عمار وأبو أياد، ومنظمة التحرير تخطب في شوراع بيروت...

تعالت ألسنة النار من بعيد، لأتذكر ليالي المئة يوم،وحروب الكبار وثمن الكرامة... أحرقت النار التي أشعلها المحتجون، ما حملته بيروت من معان ٍ في السنة المنصرمة...وتعال الدخان في سماء ٍ كثرت فيه نجومٌ، ساهرةٌ على نعش الشهداء...

تبعثرت الصور في ذاكرتي...
وحملتني أصوات المتظاهرين الى شوارع برلين، وسقوط الجدار... ألم تعرفوا؟ سقط جدارٌ في بيروت الأمس، ليفتح الباب لصراع ٍ نام تحت الرماد طويلا ً!

ثوان ٍ مرت، فتحول الجمع الى حشد كبير، يرفع شعارات الغضب والوعيد، فظننت أن اسرائيل قصفت، وأن المقاومة قد أصيبت، وهبّ الناس لنجدة بيروت التي أحبوها!

تحول ما كان أصوات مبعثرة ً ، الى نشيدٍ يردده من لم تخنه حنجرته من قبل.
وصلتني الشعارات كسيل الرصاص... هتافاتٌ بالقتل... هتافاتٌ بالاحتقار... هتافاتٌ هتافات، لاحدى الأحزاب وقائدها...

خرجت الطيور من أوكارها، انفتح الستار، لأتسمر في زاويتي ، كمن يحمل في يديه جثة رفيق...
توالت الأحداث في ذهني... تذكرت بنشعي، 8 آذار، 10 أيار...
تذكرت الحلوى في صباح اغتيال جبران، واطلاق الرصاص فرحا ً ، يوم مات بشير... وبين هذا وذاك، ألف محطة ٍ تفيض العين منها بالدموع.


خرجت من ضبابية الحلم لأستفيق على تكسر الزجاج قربي...
انها الحقيقة عارية... ساطعة... ترتجف أمام هدير الجموع...
أدخل سيارتي وأراقب عن بعد...

تمر مواكب السيارات بشكل سريع، تطالب باغلاق احد المحطات، تطالب بالعودة الى الاعلام الموحد، الاعلام الذي يصفق لصورة ٍ ، ويهلل للحاكم الجديد...

رنمت ُ، بصوت ٍ مقتول ، احدى قصائد نزار حيث يقول :
يا ستّ الدنيا يا بيروت...ها نحن أتينا.. معتذرين.. ومعترفين
أنّا أطلقنا النار عليك بروحٍ قبليّه..
فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى الحريه..."


أدرت المذياع، لربما أسمع خبرا ً يعيد النجوم الى السماء...
فاذا بثلاثة شبان سقطوا في احدى الطرقات...
كنيسة هوجمت في احدى الضواحي...
اطلاق نار مجهول المصدر...

انطفأ الصوت الصادر من العاصفة، حرمت نفسي من المعرفة.. حطمت تماثيل الوحدة والطمأنينة..
غاضب ٌ كالأم ترعى أولادها!! قتلوا ابنتي، بيروت، وكالمتفرج وقفت!!

حطام في كل مكان، صوت سيارات الجيش يجوب الطرقات...
أسرع حلم بناء الدولة بالابتعاد، أمسكته بخيط رفيع، رجوته البقاء...
تحولت تلك الشوارع الهادئة الى أنهر حمراء، أحمرها من الوجوه الغاضبة...
توقف السير في كل مكان... توقف الزمن في بيروت..
مرّ قربي عنترة بن شداد على خيله، ورأيت سيف الجلاد وراء الباب...
رأيت الصحافة معلقة ً في ساحات الأندلس، ورأيت الأحرار في المزاد العلني...
نامت الحرية في احدى غرف السلطان، واستفاقت على أنياب ٍ مزقت جسدها النحيل...

انها بيروت، مدينة التناقضات والسياسات كلها... انها مدينة، حمّلها وطنها أكثر مما تستطيع، فرزخت تحت الحمل ثلاث، وصلبت ألف مرة عن الجميع...
انها بيروت فلسطين والتحرير، بيروت اسرائيل والاحتلال، بيروت عبد الناصر والسادات، بيروت الأسد والعروبة، بيروت الحلم الوردي، بيروت آذار الاستقلال وسنين المقاومة...

أغمضت عيني، سرقتُ من الوقت لحظات لأهرب الى ساحة الحرية...
نام داخلي طفل ُ الشمس... نامت المشاعر...

عدت أدراجي، ممزق الهوامش... رأيت ورائي على الأرض، قسَم جبران، فحملته، اعتذرت منه، لسوء الأمانة... ركعت على التراب، اعتذرت من بيروت، لم أنتشلها من رواسب التخلف... احتضنت مدينة الحياة، التي مرت بمخاض جديد، عسى الولادة تأتي باشراقة شمس، ولو بعد حين!!

No comments: